رائد الشعر الحديث محمود سامي البارودي
نبذة من حياته وشعره
أسرته
قدكان الشاعر محمود سامي البارودي ينتمي إلى أسرة جركسية يرجع نسبها إلى حكام المصر المماليك،وقد قطن أحد من أسلافه في العصر العثماني مدينة "البارود" الواقعة في محافظة البحيرة، وقدلقب نفسه بالبارودي انتسابا إلى تلك المدينة، ومن ثَمّ بدأ أبناء أسرته يلقبون أنفسهم ب"البارودي" وكان والدمحمود سامي، حسن حسني في الجيش المصري من أمراء المدفعية، وأخيرا عمل كمدير لمديرية "دنقلة" في السودان.كان رجلا طموحا رابط الجأش و ذا قوة وبأس شديد، تمتلئ نفسه بالشجاعة والبطولة، كما كانت مليئة بالفروسية، وكانت أمه أيضا جركسية كأبيه، ذات ثقافة عميقة، وكانت الأسرة تتمتع بجميع مرافق الحياة من الترف والغنى، كما كانت تسودها الثقافةالعربية الإسلامية، فتولد الطفل بين تلك الثروة والثقافة في السابع والعشرين من شهرأكتوبر سنة 1839م، ودرج في كنف العيش الرغيد، ولكن شاء القدر أن يذوق الوليد شيئا من المرارة، لكى لايضل في شعاب ثروة أبيه، وشرفه في المجتمع،فلم يكن يبلغ إلى السابعة من عمره،حتى اختمرالموت أباه، وتركه بين براثن الدنيا الدنيئة، متلهفا بين الحسرة واللوعة،ولينظربأم عينه ما يكمن في قلوب الناس من مكر وغدر.
تعليمه
فقد أباه، فقامت أمه بكفالته سعياوراء تربيته وتثقيفه،وقامت بها خير مايرام من القيام، فأحضرت له المعلمين لتأديبه وتدريسه الفقه الاسلامي، والتاريخ والحساب والشعر وما إلى ذلك من العلوم،وحينما خلق الله الولد أودع فيه مواهب الشعر، التي لا تزال تنمو مع نموشعوره وبلوغ سنه،ولأنه درس وتعلم ما درس وتعلم من العلوم الإسلامية وهو في بيته، ولم يلتحق بأي كتاب ولم يختلف إلى أية مدرسة ليتعلم القليل ويضيع الكثير من الوقت، وجد أمامه وقتا فسيحا فارغا، فانتهزه لإرواء غليل معرفة الشعر القديم،وإخماد لواعج الشوق لقراءة دواوين الشعراء القدماء،هكذا اتصل مع شعراء العهد الجاهلي وما يليه من العصور،وتغذت مواهبه الشعرية،ونمت عاطفته.
ثم أراد من له زمام أموره من أهاليه، أن يحذوالوليد حذوأبيه ويتخذ طريقه من طريقه، ويكون مجاهدا يذود عن دينه ووطنه، ثم يرتقي أعلى المناصب الحكومية ويقدم خدماته الجبارة للبلاد ولمن عمّروها من السكان، فألحقه بالمدرسة الحربية، سنة 1850م، ليتخرج منها ضابطا سالكا على غرار أبيه ، فظل هناك ثلاث أو أربع سنوات، يدرس خطط الحروب وتدابيرها، ويستخرج الفروسية التي كانت كامنة في وجوده، والتي نمت فيه لكونه ابن الفارس المغوار، وتولده بين جنبات الفروسية،وظل يستعين بقصائد العرب الجاهليةالحماسية المليئة بحوادث الحروب ووقائع الفروسية،حتى تخرج في المدرسة سنة 1854م برتبة باشجاويش، ولكنه لم يحظ بأية وظيفة تلائم كفاءته، بل حظى بفرصة فتفرغ لدراسة الشعر العربي القديم ، وانكب على قراءته، وعندما لم يشبع بقراءة الكتب المطبوعة حينذاك من الدواوين، اتجه إلى المخطوطات الموضوعة في المساجد،وبدأ يختلف إليها ويروي غليله الأدبي، وكان أكثر ما يقرأ أشعار الحماسة والبطولة، فكثيرا ما استظهر الأشعار الفروسية، وظل يرددها على لسانه حين بعدحين،ويستوحي منها الفتوة الحادة.
في الآستانة
تخرج البارودي ضابطا، واستوحى خلال دراسته للشعر العربي القديم مايحتويه من البطولة والحماسة،كما تعرف على أعمال أمجاده المماليك الذين ضاقواالخناق على المغول والصليبين، ووضعوالسيوف في أعناقهم، حتى هزموهم شر هزيمة، ومزقوا طاقاتهم كل ممزق، وبلغه ما قام به رجال أسرته في عهد محمد علي من المجهودات خلال الحروب، فتأثر البارودي بها تأثرا عميقا أغرمه على البحث عن وسيلة تساعده على إظهارتلك الفتوة والبطولة،والقيام بأعمال مجيدة توصله إلى قمة الفروسية حيث بلغ أمجاده وأسلافه، وعلى الإتيان بأفعال يعتزبها بين أقرانه ويفتخر، ففكرأن القيام في مصرعاطلا لايجدي به نفعا في إدراك ما كان يغلي في قلبه كغلي المرجل،ولتحقيق ماكان يطمح ، ولا الجيش المصري الذي قد قصت أجنحته،لايتيح له أية فرصة لإظهار عبقريته الحربية،ففكرماذا يفعل؟ ولم يلبث حتى هداه تفكيره إلى مغادرة مصر والهجرة إلى آستانه، علّه يجدهناك ساحة لتعبيرعما كان يكمن في قلبه، فشد الرحال إليها وألقاه هناك في قاعة الوزارة الخارجية، التحق بها وأخذ يحاول لتحقيق أهدافه، ولكن لم يفزبه ولم يُتح أية فرصة لإظهار فروسيته، ولكن لم يذهب سفره إلى "الآستانه" سدى، وما ضاعت أيامه هناك، بل الله الذي خلقه وأدوع فيه مواهب الشعر،أعطاه فرصة ليستفيدمن ثقافة الأتراك وليعب من مكتباتهم ليغذي عاطفته الشعرية، فلم يدخر أي وسع ولم يضيع أية لحظة سدى دون عمل ، بل انتهزها واستفاد منها استفادة أنضجت شاعريته،و تكثفت ثقافته، حيث توجه إلى مكتباتهم ووجدهنالك ماكان أثمن مما غادره بمصر، وجد دواوين شعراء العرب الأقدمين المخطوطة مبثوثة على رفوفها يعلوها الغبار،فنفضه وبدأ يتردد إليه ويختلف،حينا بعد حين،حتى استظهرروائعها، وأخذ يجمع ما تمكن من تلك الدواوين، واستنسخها بمعانة طائفة من النساخ حتى تكونت له المكتبة الضخمة، كما تعلم التركية، ودرس آدابها، وعقد أواصر المودة بأدباءها، ومرت الأيام و اشتدت صلته معهم وبدأ يحاكيهم فيما ينظمون وينثرون،ثم توجه إلى الفارسية وآدابها،فتعلمها وأتقنها، حتى نظم فيها كما نظم في التركية، فتغذت مواهبه الشعرية بأعماله في الآستانه،وتفحلت، شبت ونضجت، حتى فكر أن بقاءه هناك في الآستانه لا يكون خيرا من حياته فى مصر وما إن شبع من مناهل التركية والفارسية، بدأ يحن إلى وطنه.
في الجيش المصري
كان البارودي بالآستانه وقلبه بمصر،كان يفكر في العودة إليها،حتى لبى الله نداءه،فحدثت الوقائع التي مهدت له الطريق إلى مصر،بأن إسمعيل تولى الحكم ، وعين واليا على مصر من قبل السلطان العثماني،فرأى ضروريا أن يرفع إليه فروض الشكر، ويقدم عقودالتهاني، فقصد إلى الآستانه، حيث سمع عن البارودي، وما كان له من أعمال، وانتهز البارودي أيضا هذه الفرصة الثمينة ، وانضم بحاشيته، حتى عاد معه إلى وطنه الذي كان يحبه حبا جما، ويحن إليه في الغربة،فعاد وانضوى إلى الجيش المصري،ولم يلبث أن ارتقى إلى رتبة بكباشي(مقدم)،ثم ارتقى فعين قائدا لفرقتين من فرق الفرسان،ابتهج ابتهاجا حتى كاد أن يطير في علياء السماء فرحا وسروا، لأنه أدرك أمنيته، لا بل سلك على سبيل تحقيقها، وأوشك أن يجد بغيته، وكاد أن يصبح فارسا مغوارا يقتحم المعارك، ويضج في معسكر الأعداء، لأنه أصبح قائدا والفرسان رهن إشارته، كان يبتهج في أخيلة الوغى، حتى أنه أرسل إلى فرنسامع زملائه الضباط ليشاهدوا الاستعراض السنوي لجيش الفرانسي، ومن هنا سافروا إلى بريطانيا ليشاهدوا بعض الأعمال العسكرية، والآلات الحربية، فشاهد وأضاف بخبراته ما شاء، حتى رجع إلى بلده ليخدمه بما شاهد واختبر، ولم يرجع إلى مصرحتى رقي في سلاح الفرسان إلى رتبة "العقيد" ثم إلى "العميد.
سافر البارودي إلى فرنسا وانجلترا، وشاهد هناك ما شاهد وفق وظيفته، مع هذاكله اكتحل عيناه بمناظرالطبيعية المبثوثة في كلتي البلاد،واكتسب منها أشياء كثيره ليغذي بها شاعريته، ويزودها بلآليها،حتى ظهرت آثارها في شعره بهذه الفترة.
على كل حال، عادالباردوي إلى وطنه، وارتقى إلى رتبة العميد، ولم يلبث مشتغلا بسوغ ما شاهده في الفرنسا وانجلترا في شعره، حتى حدثت كارثة، وحان للباردوي موعد لإظهار عبقريته وفروسيته،واختبار ما تعلم في المدرسة الحربية من حيل الحروب وتدابيرها، وما عرف في القصائد الجاهلية من الحماسة والفتوة المتقدة، وأن لفروسيته أن تخرج من مكامنه أي من صدرالبارودي الرحيب، وقلبه الشديد،وتبرز في الوغى، و في وطيس المعارك، قد حدثت ثورة في جزيرة "كريت" ضد الدولة العثمانية، فأرسلت جيشها لإخماد لهيبها، واستنجدت بمصر، فلبى واليها اسمعيل نداءه وبعث كتيبة يشاركها البارودي كضابط، فذهب مع زملائه وفرسانه، وشارك في الحرب واقتحمى الوغى، وظلت الحرب سجالا، حتى وضعت أوزارها، وقمعت الثورة وطفأت لهيبها،وعاد الباردوي إلى مسقط رأسه سنة 1869م أو قبلها ببضعة أشهر، واعترفت الدولة العثمانية بخبرات البارودي وفروسيته وبحسن تدابيره في قمع الثورة، ومنحته وساما من الدرجة الرابعة مشيدةً بما قام بها البارودي من أعمال جليلة خلال الحرب.
في القصر
قد عاد البارودي منتصرا من جزيرة "كريت"، ولكنه لم يعد إلى جيشه، كما كان، بل عاد وانضم إلى البلاط الحكومي بحيث عينه إسمعيل ياورا بمعيته،فظل هناك، عاملا ما كان يفوض إليه، ومشتغلا بمشاغله الأدبية،ثم ولى الأمر إلى ابن إسمعيل توفيق فجعله كبيراً لجميع الياوران، وما زال يشغل هذالمنصب حتى عادإسمعيل إلى الحكم وعينه سكريتريا خاصا له.
قضى البارودي في القصر عدة سنوات، ولكنه ظل يذب عن شرافته وكرامته ولم يهبط مماكان عليه من الشكيمة والأنفة، فلم يتملق إليه بقرض القصائد في مدحه، ولم يتذرع بالشعرلتقربه، ولم يتخذه وسيلة وزلفى للحاكم، إلا ما قرض في مدحه حينما تولي إسمعيل حكم مصر، وتعرف عليه البارودي وهو في الآستانه موظفا بوزارة الخارجية التركية.بل شكاه عندما فسد قلب إسمعيل وفسدت حاشيته بطانته، فأخذ يستدين من الأوروبيين، وينفق قناطرالذهب والفضة على قصوره وملاذه، وحفلاته ومناسباته، فأثقل ظهر البلاد،ودعاالإنجليز لينسل إلى مصر ويتدخل في أمورها الداخلية،فهذا كله كان يقض مضجع البارودي،وكان يحس فيه نفسه ضيقا ثم ماإن أشاروزيره أن يستنزف أموال الشعب لسد الديون، زاد الطين بلة،وأصبح الأمر ضغثاعلى إبالة، حتى ثار نفس البارودي وثار شاعريته، فكتب قصيدة يسيئ فيها إلى حكم إسمعيل الفاسد، واستنهض همم القوم ، ليقضوا عليه قضاء مبرما.
على ظهر الجواد
قضى البارودي في القصر سنوات عمره، وشاهد بأم عينه ما كان يحدث في غياهبها، فحاول أن يصلح إسمعيل و يخلصه من براثن حاشيته الفاسدة، ولكنه لم يفز بمحاولته، فعافت نفسه وجعل يدبر لإعادته إلى الجيش، فيوما هجمت روسيا على الدولة العثمانية في شهر إبريل سنة 1877م، واستنجدت تركيا بمصر، فأثمرت مساعي البارودي لإعادته إلى الجيش، فأعيد وأرسل قائدا لحملة ضخمة، وخاض المعركة مع فرسانه في"أكرانيا" وحمي وطيس الوغي، فظلوا يحاربون مستميتين،ومستبسلين، حتى أبلوا فيها بلاء حسنا، وانهزمت التركيا،وعقدت معاهدة بينها وبين روسيا،المنتصرة، غير أن أنباء فتوة البارودي وأعماله الفروسية سابقت إلى بلاده، فخلع عليه الترك اعترافا ببسالته رتبة أميراللواء، ومنحوه نيشان الشرف ووساما من الدرجة الثانية، عاد البارودي إلى مصرفي أبريل سنة 1878م، فلم يلبث حتى رقي إلى رتبة اللواء، ثم عين مديرا للشرقية، وسرعان ما نُقل محافظا للقاهرة، حيث استقام ليشاهد ما كان يعرض على منصة الحكومة من الألاعيب والمسرحيات السياسية.
في مكتب الوزارة
عندما فاز الإنجليز والفرنسيون في محاولتهم عند الحكومة العثمانية لإطاحة إسمعيل عن ولاية مصر، وخلفه ابنه توفيق، وشكل الوزارة من جديد تحت إشراف محمد شريف،فاصطحب محمد شريف البارودي معه وعينه وزيرا للمعارف والأوقاف، فدخل في إطار النظامي ولكن لم يتوقف من قرض الشعر،وظل يلعب بقيثارته، ويشير توفيقا لإصدار الدستور، والتجنب بتدخل الخارجي، ثم مرت الأيام وتبعتها الأخرى حتى أذاب الإنجليز همة توفيق، فوضع يده بأيدهم وأصبح كأبيه دمية يلعب بها الإنجليز وصدق ما قيل "أن الشر لا يولد إلا شرا" فسولوا له ألا يصدر الدستور الذي أعده محمد شريف ولا يدعو مجلس شورى النواب، فقام الناس بتظاهرات عظيمة واستقال محمد شريف ولكن لم يصلح توفيق ولم يفق قلبه بفساد بثه الإنجليز في عروقه، فظل يحكم دون دستور، وأحق للإنجليز حضور جلسات مجلس النظار،وسلم أموره إلى رياض،حدث هذا كله، ولم يظهرالبارودي ماكان يغلي في قلبه، بل عمل بضرب من المصانعة وظل حيثما كان ناظرا ووزيرا للأوقاف، ونهض بإصلاحات كثيرة في إقليم وزارته، ولم يتركه لآخر دمية الإنجليز مثل توفيق ورياض، فجمع جميع الكتب الموقوفة المبثوثة في بقاع مساجد البلاد،ووضعها في مكتبة أسسها،وبذلك حفظ التراث القومي من أيدي التلف والضياع،
الحزب الوطني
لم يسلك توفيق غيرما سلك إسمعيل بل تقدم به، وزاد النفوذ الخارجي بشكل الشركات الخارجية وبشكل الرقاب الإنجليزي،وضاعف توفيق خناقه على الشعب بحكمه الاستبدادي، فحينما طفح بالشعب الكيل وزاد الأرض بلة، ندد وثار ثورانا ولكن جميع زعماء الشعب يتقدمهم أحمد عرابي وعبدالعال حلمي وعلي فهمي كانوا يخافون من شراسة توفيق ومساعديه الإنجليز، فلم يعلوا أصواتها ضد الحكومة بل أسسواجمعية سرية باسم الحزب الوطني، في شهر نوفمبر سنة 1879م، وجعلوا مقرها حلوان، انضم البارودي إليها ولكن مختفيا بعيون الحكومة، وطبعت تلك الجمعية منشوارت كشفت الستار عن مساوي الحكم، ووزعت تلك المنشورات في جميع بقاع البلاد، كما فازت بنشرها ببعض الصحف الفرنسية.
وكان رياض قد سلم وزراة الحربية والبحرية إلى عثمان رفقي السركشي، الذي كان رجلا انتهت به الذميمة فاستحوذه الشيطان العصبي وسول له أن يظطهد ضباط الجيش المصريين ويسبغ ضباطه السراكشة بأنعمه المتنوعة،فما إن انسلت العصبية في الجيش، وبدأ تلعب بوحدته، خرج قائد الحزب مع رفقاءه سوى البارودي من مكامنهم إلى ريعان الشمس، وظل البارودي مختفيا ليكون عينا لهم في البلاط الحكومي ،وتقدم العرابي مع رفيقيه عبدالعال حلمي وعلي فهمي في 17 من ينابر سنة 1881م بمذكرة إلى الحكومة، وطلبوا فيها بعزل عثمان رفقي، ولكن القدر شاء غير ما شاؤا، فحوكموا واعتقلوا بجريمة رفع الشكوي إلى من بيده الأمر، ولكن بعضا من الجيش شاطروا في أحزانهم وقاموا بجانبهم، فتدخلوا في الأمر حتى أعيد لجميع هولاء المعتقلين حريتهم واُطلق سراحهم، ثم فكر توفيق في القضية و أمعن النظرفيه،حتى دعا مجلس النظار ليتشاور معه فى الأمر، فهناك جاءت نوبة البارودي بأن يقوم بعمله كما قام أعضاء الحزب الآخرون بأعماله، فلم يتهرب عنه بل تقدم وأشار توفيق بإجابة مطالب عرابي ورفاقه، وصدع توفيق بمشورته، وأقصي رفقي عن منصبه، وانضمت الوزارة إلى البارودي، فانتهز الفرصة وشن الحركة الإصلاحية في الجيش حيث زاد رواتب الضباط والقوات، كما زاد عددهم ليقوم بواجباتهم في الذب عن البلاد والذود عن ثغورها أحسن ما يرام به، ولكن لم يطل عليه تلك الفرصة بل أحيل على عجل نتيجة لدسائس دبرها رياض وأصحابه لدي توفيق.
عاد على كرسيه
إن رئيس حاشية توفيق رياض لم يحل البارودي عن منصبه في الحكومة فحسب، بل بث له العيون ليتعرف على صلته بالحزب الوطني وبقائده أحمد عرابي، وقام له بالإرصاد، ففكرالبارودي في العزلة حتى قررها، فولى جهه شطر ضيعته بقرية قرقيرة في محافظ المنصورة، واشتغل بقيثارته، ونظم ما حدث به وبالقوم وبمصر ولكن سرعان ما تبرم بتلك الحياة فرجع على أدراجه، وأخذ يشارك الناس في شئونهم الوطنية. فلم يمض عليه إلا أياما قلائل حتى شاء القدر أن يعيد عليه كرسيه في الوزارة، فحدثت حادثة بأن الجيش قد ثار ثورانا بقيادة عرابي وطلب بإصلاحات ضرورية في الجيش مع عزل رياض عن الحكومة، واضطر توفيق إلى إذعان لمطالبه، فأحال رياضا وفوض الأمر إلى محمد شريف لتشكيل مجلس النظار من جديد، فطلب البارودي وألزمه معه كناظر للحربية والبحرية.
رئيس مجلس النظار
أنشأ محمد شريف مجلسا نيابيا وبدأ يطبق الدستورالذي كان أعده في أواخر أيام إسمعيل، والذي كان يشتمل على نص بأن يكون للمجلس النيابي حق خالص في تقرير الميزانية، فما بلغ محمد شريف إلى تنفيذ هذا النص حتى ضج الإنجليز و تقوض مضجعهم،لأنهم كانوا جالسين على خزانة البلاد كالأفاعي، لا تسمح لأحد أن ينظر إليها إلا من يقدم لها اللبن والحليب، فانسحب محمد شريف قدما،-ولا يعلم ماذا كانت المصلحة في إنسحاب ذلك الرجل القوي- ولم يظهر عزيمته، فرأى المجلس في ذلك مساسا بكرامة الأمة وهدرا لحقوقها الشرعية، فاعتزل محمد شريف الحكم.ودعي البارودي لتشكيل مجلس النظار من جديد، وفتقدم وألف المجلس وشمله جميع أعضاء الثورة العرابية، وعين أحمد عرابي ناظرا للحربية والبحرية، وقدم خدمات جبارة لإصلاح البلاد وزعيمها توفيق، ولإخلاصهاعن تدخل الخارجي ونفوذه،تنفيذا للنص الذي أرق الإنجليز و ذهب بنعاس إخوانهم الفرنسيين، كما توجه إلى إزالة العصبية من الجيش وتطهيره من جراثيم الفساد.
على جناح الثورة
لا يزال البارودي يسلك طريق الإصلاح في الحكومة، حتى وافى شهر إبريل:الذي لم يأتي لمصر بخير، حيث انكشفت مؤامرة كادت أن تبيض،الذي كان يخطها الإنجليز مع بعض الضباط السراكشة في الجيش لاغتيال ناظرالحربية أحمد عرابي ومن معه من رفقائه الناظرين، فأُخذوا وقُدموا إلى محكمة عسكرية، حيث حكمت بتشريدهم المؤبدإلى السودان، وتجريدهم من رتبهم وكل إمتيازاتهم، وقيل لتوفيق أن يصدقه، ولكنه تماطل وأراد أن يسوف فيه، ثم بعد الضغط الشديد من قِبل الشعب صدق ولكن مع تعديل بإيحاء من الإنجليز، فثار الباردوي وثار معه رفقائه ثم الشعب كله، واتسعت الفجوة بين مجلس النظار ووالي مصر توفيق، حتى تنادى الكثيرون بخلع توفيق وإطاحته، ثم دعا الباردوي المجلس النيابي لتسوية الأمر بين مجلس النظار وتوفيق،ولكنه تحكم وظل ملتصقا بمساعديه الإنجليز حتى أنذر الإنجليزإلى حكومة البارودي باستقالته وخلع عرابي عن سرير الوزارة إبعاده عن مصروكذلك لرفقائه، فمزق البارودي الإنذار،غير أن توفيق أعلن قبوله له، فسخط البارودي وازداد غضبا حتى قدم استقالته، وشغر منصب رئيس النظار، وأصبح المجلس بدون رئيس.
في الحرب مع الإنجليز
قد استقال البارودي وفقد المجلس رئيسه،ولم يجد توفيق من يقوم مقامه وينوب البارودي،فمضت الأيام وظل الأمر هكذا، حتى قام الإنجليزوانتهز الفرصة، فدبر لاحتلال البلاد، ونقل دميته توفيق إلى أسطوله الذي كان راسيا على مقربة الإسكندرية، ثم دهم المدينة وبدأت مدافع الأسطول تطلق القنابل على المدينة، فحينما حمي وطيس المعركة، دعا العرابي الباردوي ليساهم في الذود عن وطنه الذي كان يحنه إليه كلما يبعد عنه، ولم يتأخروقام بجنب العرابي واقتحم الوغى حتى تخلى عنه أنصاره وانسحب الجيش ووضعت الحرب أوزارها،والقي القبض على البارودي على جيمع رفاقه.
في غيابة المنفى
قد سجن البارودي مع رفاقه ثم حكم عليه بالتشريد، وبالمصادرة على أملاكه، فقد نُفي هو وبعض زعماء الثورة إلى "سرنديب": بلاد كجزيرة تطل على بحر الهند والعرب،على كثب من الهند، وحجزت الحكومة على ما كان يملك من متاع وتركت أسرته مهيمة على وجهها، فحينما غربت شمس يوم 27من ديسمبر سنة 1882م بدأت تغرب شمس حيات البارودي،حيث أُركِب مع رفاقه في قطار خاص وسافرواإلى السويس، ثم من هنا يوم التالي حملتهم باخرة إلى" سرنديب" ونزلوا بمدينتها الساحلية "كولمبو" في صباح 10 من ينابر سنة 1883م فتغشاه الحزن،وحاقت به ألام فراق الأصدقاء والأقرباء وخاصة فراق صاحبته وأفلاذ الكبد، كما أرقته في المنفي أفكاره عن وطنه، وقضت مضجعه الأخيلة التي كانت ملتصقة بنفسه حول وطنه، ولا يهجرها ولو لحظة، ولكنها كلها لم يتمكن من تحطيم داخلها،وإخماد أماله، فظل يعيش مع صحبه وفي حجره قيثارته يتغنى بما حدث في قلبه وما حدث في وطنه، وما تنظر عيناه ما سيحدث.
وفي أثناء نفيه وتشريده إتهمه بعض المصريين بأنه قد ثار حرصا في الولاية وطمعا في الملك، لا غضبا لمصر ولحكومتها.
مضى البارودي يعيش مع صحبه، ومع قيثارته، يحن إلى وطنه يشكو بماحلت به من محن، ويستنهض همم القوم منتظرا لحرب أخرى،وبين ذلك قد حمل إليه البريد نعى بعض رفقائه مثل أحمد فارس الشدياق، وعبدالله فكري، وحسين المرصفي،كمابلغ إليه نبأ نعى زوجته،شريكة حياته،وزهرة حديقته، فأمضه الحزن فبكا بقيثارته وناح، وأنَّ وأعول، و حينما اشتد على رفيقه يعقوب سامي سماع نوحته وبكائه فحاول أن يواسيه شيئا ويأسو جرحه، فزوجه من ابنته، وأخذه معه إلى وسط الجزيرة بمدينة "كندى"حيث كان يسكن، فظل البارودي هنا يلعب بقيثارته، و يحن إلى وطنه،ولايزال يقضي أيامه في غياهب المنفى متفائلا، لم تخمد أماله، فلم يضيع هناك ما وجد من الفرصة، بل تعلم الإنجليزية، فترجم منها البعض إلى العربية، وراسل شكيب أرسلان صاحب "الحاضر الإسلامي" وأحد تلاميذ الشيخ الهندي: حسين أحمد المدني الذي كان يدرس حينذاك بالمسجد النبوي بالمدينة المنورة، كماراسل بعض أدباء الهند،و علّم بعض مسلمي منفاه،حتى طلعت عليه شمس يوم ألم فيه بمرض عرق العيون كاد أن يذهب ببصره الذي لم يبق إلا ضئيلا، فاستدعى الطبيب،ففحصه ولم يفز،فتبعه طبيب آخر، ولكن المرض ظل يشتد، فقررت جمعية الأطباء أن لا بد من العودة إلى وطنه لمعالجته فى المناخ الذي شبت فيه عيناه، وأصروا إليه لتقديم الالتماس إلى الخديو عباس الثاني، ففعل ورده خديو إلى وطنه،
في مسقط رأسه مصر
لبى الخديو عباس نداءه واعفاه وأطلق سراحه فعاد إلى وطنه سنة 1900م،وردّ عليه عباس كل ما كان أصدر من أملاكه، فحينما راي البارودي العباس واقفا بجنب مصطفي كامل مغاضبا للإنجليز حيّاه وهنأه.
عاد البارودي إلى وطنه ولزم بيته ماكان يخرج منه ولا يذهب إلى أحد كما لم يكن يختلط غير من كانوا من أهله، وأصدقائه المخلصين، وعكف على تنقيح ما أنشد في المنفى من شعر وما جمع منه خلال حياته، كما عكف على ترتيب مختارته، وقدجمع فيها ما انتخب من شعر ثلاثين شاعرا من الرائد الشعر العباسي بشار بن برد إلى ابن عنين المتوفي سنة 630 للهجرة، كما قرّظ منعزلا في بيته على ديوان مصطفى صادق الرافعي، الذي جاء سنة 1902م في حيز الوجود، وقرظ على جزء الأول من ديوان حافظ حين ظهر على منصة الحياة،
في الطريق إلى ما لم يعد منه أحد
حتى جاء يوم الخامس من ديسمبر سنة 1904م وارتحل البارودي إلى من خلقه،تاركا عيون جميع من كانوا يحبونه من أهاليه وأصدقائه وأحبائه تفيض من الدموع،وتاركا قيثارته التي لم تتركه حتى في أيام تركه الجميع هائما في غياهب المنفى،وذهب البارودي، لألا يعود أبدا فبكت قيثارته وأبكت جميع القيثارات، في مصر وخارجها وندبت الشاعرية ، ثم قامت زوجته بطبع االمختارات التي كان رتبها البارودي في أربعة أجزاء، كما طبعت من ديوانه إلى قافية اللام في جزءين ، وشرحه محمود الإمام المنصوري، ثم في سنة 1940م قامت وزارة التربية والتعليم بطبعة الديوان، وفوضت العمل إلى الأستاذين: علي الجارم ومحمدشفيق معروف لطبعه فتحمل أعباءه ونشرا جزءين ينتهيان بقافية الكاف، والبقية في انتظار حتى الآن.
الشعر قبل البارودي
هذا هو لا يجحد أن جميع ينابيع الشعر قد كانت نضبت قبل البارودي،والشعراء أنذاك لم يكونو يتوجهون إلى تجديد الشعر أو بعثه من جديد والبلوغ به إلى ما كان في العصور الماضية، بل كانو يتيهون في أودية المحسنات البديعية المتكلفة، فلا يعنون بمعانيه، وكل ما كان نصب أعينهم وهو الألفاظ وجناس البدائع، فهم يتفنون في البدائع ويقرضون أشعارا تقرأ من اليسار كما كانت تقرأ من اليمين، أو كانوا ينظمون أبياتا كل كلماتها معجم الحروف أو مهمل الحروف، كما كانوا أحيانا يقولون قصائد طويلة ، ويبدأون أشعارهم بأحرف لو كانت تؤلف لكانت شعرا أو بيتا، أويبدؤن جميع أشعارهم بحرف واحد مثلا ما قال الشاعر المعرف في ذلك الحين الشيخ درويش:
علي على عينك عذل عواذلي | * * | عذاب، عليها عند عاشقها عذب |
فأصح ما كان حال الشعر في ذلك الأحيان ما ذكرالدكتور شوقي ضيف:"ولم يكن أمام الشعراء مثل فني أعلى يحلمون به، إنما كل ما كان يحلم به الشاعر أن يتعلم فن العروض وصياغة النظم ثم يعالج هذه الصناعة على نحو ما يعالج طلاب المدارس الثانوية تمارين النحووالبلاغة، فشعرهم أشبه ما يكون بكراريس التطبيق،ليس فيه روح ولا حياة ولا عاطفةحقيقية أو شعور" مثل ما قال الشيخ محمد شهاب الدين المصري في الوصف،فيقول:
رَاحَ دَنٍ أدَرتَ أم ذوب ورد | * * | رقّ إذ دار دون آس وورد |
الشعر والبارودي
قد خلق الله الوليد وأودع فيه مواهب الشعرية، وتلك المواهب ظلت تنمو بنموّ عمرالوليد وشعوره، كما لم تزل مكنونة في سويداء قلبه ووجدانه حتى شاء القدر أن تبرز تلك المواهب ويقوم بواجباته، فسلط الله على الوليدالأحزان والآلام لتصقل شخصيته وليذوق مرارةالعيش، وكل من يمر بميادين الأحزان أو يغوص جداول الهموم يعتمدإلى الشعر ويبحث فيه طمأنينته ويسوغ حزنه في عقود من الشعر، لأن الشعر من شأنه أن يذهب بالمرء عبوسه و يترشح عليه شيئ من الفرح، فلم يمض عليه بعد وفات أبيه سنوات حتى بدأ يقرض الشعر كمال قال بنفسه إظهارا لشاعريته، يقول إن الشعر أحد أجزاء ثقافة أسرته:
أنا في الشعر عريق | * * | لم أرثه عن كلاله |
قد تعلم البارودي اللغة العربية في كنف بيته وقد شغف به وأعجب به أشد الإعجاب فحينما دخل المدرسة الحربية لم يتوقف من مطالعة الكتب العربية القديمة وخاصة الشعر الجاهلي وما يليه من العصورالإسلام والأموي والعباسي، كما كان لا يجوز ولو وهم اللغة العربية في رحاب المدرسة ولكنه غير أن يقف، عكف على دراسة الشعر وأسلوبه بجميع أشكاله من اللفظ والمعنى،وكذلك تمتع البارودي بدارسة الآداب التركية في رحاب هذه المدرسة حيث لم يكن لأي طالب مفر منها، ثم وُفق للقيام بالآستانه، هناك وجد فرصة ثمينه لمضاعفة معرفتها بالآداب التركية، فعكف على دراسة ماقرض شعراؤها وماكتب أدباؤها، فاستفاد كثيرا منها ونقلها إلى اللغة التي كان قد أغرم بحلوها وهي اللغة العربية، وهناك وجد كتبا كثيرة في آداب اللغة العربية، فاختص منها كتب الشعر، وبدأ يعب من مناهل الشعراء الأقدمين، وانكب على شعراء الحماسة، ولأنه كان فارسا مغوارا كما كان ابنا لوالد مقدام أغرم بحماسة تلك الأشعار وتصويرها لمعارك تصويرا بديعا، فاستظهر كثيرا منها وأخذ يتغنى بها في أكثر الأحيان، وكان يظن أن كل كلمة من تلك الاشعار تصور فتوة أجداده، ويرى لنفسه أن يكون مثلهم، هذاكله ثقفت شخصيته وغذت عاطفته الشعرية،فلم يلبث أن تحرك لسانه ومضى يشدو بأنغام من تلقاى نفسه التي كانت تفيض بقوة وحماسة وطموح، وكأنه يريد أن يحقق ما تعنوا له الوجوه، وولم يتوجه البارودي إلى أسلوب الشعراء المعاصرين أو القدماء القريبين بل شق طريقه بنفسه وسلك غير ماكانوا يسلكون، بل اختار طريقا سلكه الشعراء في العصور الماضية البعيدة مثل الشعراء الأموي والعباسي ، بما أنه طالع دواوينهم التي أعجب بها وإغرم بما فيها من معاني وأسلوب بديع، فاتخذ أسلوبهم أسلوبا لنفسه ح وقال:
هو ماقلت فاحذرنها صباحا | * * * * * * | غارة تملأ الفضاء رماحا |
فصور ماكان يطمح إليه من القيام بأفعال مجيدة.
هكذا أخرج الباردوي الشاعرية من هوة الذل والخذلان وبث فيها روحا جديدا، مع أن معاصريه الكبراء من الشعراء كانوا يغضبون وينظرون إليه كأنه خرج على الشاعرية،ولكن أثبت الزمان أن البارودي قد شرق على سماء الشعرالعربي الحديث ونور الآخرين، ولكنهم غابوا في غيابة الجب، وإن يعلمهم أحد فمايعلم إلاكالأشواك مع الورود.
ولد الباردوي مع العاطفةالشعرية، فظل ملتصقا بالشعر يقرأ الشعر القديم ويقرض الشعر الجديد، ثم التحق بالمدرسة الحربية التي لا تقاضي من الوقت كثير، فكان يتوفر له الفراغ ليلعب بقيثارته ويتغنى ما كان يختلج في نفسه من الأحزان أو حوادث المسرة، فلم يضيع أوقاته سدى كما لم يكن يلعب خلال تعليمه إلا بقيثارته، كما أنتج من ألاعيبه هذاهو الذي رثا به أباه وهو فتى صغير لم يبلغ من عمره عشرين فقال:
مضى وخلفني في سن سابعة | * * * | لايرهب الخصم إبراقي وإرعادي |
وحينما بدأ البارودي حياته العملية ودخل مجال الكسب، لم يترك قيثارته، بل ظل يصحبه فلم يره أحدإلا في يده سيف وبأخرى قيثارته، وهو يناضل بكلتيهما يضع في أعناق الأعداء سيفه، ويقتل همتهم بقيثارتهم، بقصائد التي كانت تزيد الفارسين حماسة وفتوة، وتكثر قوتهم النضالية، كما ما إن عاد البارودي بعد إخماد ثورة "جزيرة كريت" حتى قال وصور المعركة:
أخذ الكرى بمعاقد الأجفان لا تستبين العين في ظلمائه | * * * * * | وهفا السري بأعنة الفرسان |
وفي أثناء نفيه وتشريده بعض من رفاقه في مصر غير أن يقفوا بجانبه، ويشاطروا في أحزانه، ويواسو أولاده، زادوا الطين بلة، حيث اتهموه بأنه قد ثار حرصا في الولاية وطمعا في الملك، لا غضبا لمصروما دهمها من أرزاء الظلم وتغلل النفوذ الأجنبي، فتضور سمعا به وتقوض كما تحطم من داخله، وتمزق كل ممزق، فلم ير من يواسيه، ولم يجد من يقف بجانبه إلا قيثارته التي كانت قائمة أمامه، تنظرإليه وتبتسم، وتدعوه إلى نفسها لتشاطر أحزانه، وتواسيه، فلبى دعوتها وأنشد قائلا:
يقول أناس إني ثرت خالعا | * * * * | وتلك هنات لم تكن من خلائقي وذلك حكم في رقاب الخلائق |
قال ولم يطفأ ما كان يحرق في نفسه من لهيب اضرمتها تُهم رفاقه،فظلت تشتعل حتى قال مرة أخرى لينكشف الستار وتتجلي الحقائق، وليقوم الناس بماكان يريد من القضاء على حكم إسمعيل، وإخراج مصر من ظلمة نفوذ الأجنبي، إلى نور الاستقلال كليا، فقال:
لم أقترف زلةً تقضي علي بما | * * * * | أصبحت فيه فماذا الويل والحرب ذنبٌ أُدان به ظلما وأغترب؟ |
فعاد إلى وطنه وفي يده قيثارته، يطرب بها:
أبابل رأى العين أم هذه مصر | * | فإني أرى فيها عيونا هي السحر |
قد عاش البارودي حياته أحيانا على نسيج الوردو وتارة على ظهور الجياد ، ثم في البلاط الحكومي، وعلى كراسي الوزارة ، ثانيا على جناح الثورة وآخرا في المنفى، ولكنه ظل يتغنى و ينشد، فمتع الباردوي جميع أصناف الشعر ما كانت مألوفة في عصره وما لم تكن من أصناف الشعراء الأقدمين، ألا ينبغي لنا أن نذكر بعض ما قرض فيه الشعر من الأصناف والأغراض وشئيا نموذجيا من أشعاره؟ فهذا مايلي:
الشكوى
قرض الباردوي غير قليل في الشكوى أحيانا وجهه إلى أولي الأمروتارة إلى الشعب الذي فقد فتوته، وكان قدهبط في هوة الذل والخذلان، ورضي به رضا لم يحاول أن يخرج منه، فقصيدته التي استهلهاب:
غاد الندى بالجيزة الفيحاء* واحد الصبوح بنغمة الورقاء
تضج بالشكوى، وكثير على سبيل ذلك، حينما فسد إسمعيل وفسدت حاشيته، وأثقل ظهر البلاد بأعباء الديون، فتبرم بإسمعيل والشعب الذي لم يحل دونه وترك إسمعيل يذهب بالبلاد أين يشاء، فأنشد شكوى ممض،وقال:
وصاحب كهموم النفس معترض | * * * * | مابين ترقرة مني وأحشاء |
شكى البارودي وهو في المنفى بأنه يبيت على الأشواك أو يبيت في أظفار أسد أو بين أنياب حية،لا منقذ ولا مغيث،فهو يقول:
ولا صاحب غير الحسام منوطة | * * * | حمائله مني على عاتق صلد |
الوطنيات:
كان البارودي يحب وطنه حبا جما، فكلما يذهب خارج البلاد،يحن إليه ويئن أنين الثكلى، كم مرةً حدث له أن يشارك الحروب التي أضرمت نيرانها ضد الوطن، فهناك ناضل نضالين: مع العدو والشوق الذي يحضه أن يعود إلى وطنه بأقرب ما أمكن ، لا فرارا من الوغى، فإنه كان بطلا مغوارا، بل متلهفا إلى ما ولد فيه وعاش، فكان يكره أن يقضي ولو بساعة خارج البلاد، إلا بالضرورة، كما يدل عليه أشعاره:
ولو كنت مطلوق العنان لما ثنت | * * * * | هواي الفيافى والبحار الطوافح |
قد كثر شعر البارودي في الوطنيات لأنه كان وطنيا صادقا، لا ينظر أية مصلحة في حساب الوطن فكان يشتغل بأمور الحكومة في الوزارات المختلفة، ولكنه لم يتملق إلى والى مصر،بل حينما ضل إسمعيل طريقه وأثقل ظهر البلاد بأعباء الديون، ثم سمح للتدخل الأجنبي، فثارت نفسه ثورة عارمة سجلها في قصيدته العينية التي يستهلها بقوله:
متى أنت عن أحموقة الغي نازع | * * * | وفي الشيب للنفس الأبية وازع |
ولم يكف على هذا، واستنهض همة الشعب،وحثه ليثور ويطيح إسمعيل عن عرشه، ويقضي قضاء مبرما على حكمه فقال:
فياقوم هبوا إنما العمر فرصة | * * * * | وفي الدهر طرق جمة ومنافع |
المدح
عاش البارودي زمنا طويلا في رخاء القصر ورغده، ولم ينكب على قرض مدائح إسمعيل وتوفيق كما كان الشعراء قد تعودوه لكسب معاشهم، فأشعاره في المدح قليل، وأحيانا مدح ولكنه لم يطل، ولم يكثر، ولم يتملق إليه،مثل شعراء أخرين، إنه مدح في أواخر حياته النبي صلى الله عليه وسلم ملك الملوك ونظم قصائد مختلفة وأروعها ملحمته التي سماها "كشف الغمة في مدح سيد الأمة" فهذا يصف قصة معراجه ويمدح:
سما إلى الفلك الأعلى فنال به | * * * | قدرا يجل عن التشبيه في العظم |
الفخر
البارودي كان ينتمي إلى أسرة ذات مكان مرموق،ينتهي نسبه إلى ملوك مصر، وأسرته كانت تحفل بالفتوة والحماسة والبطولة، وهو أيضا كان ذا فتوة وحماسة، كما كان قدت تربى بين العروبية والثقافة الإسلامية، فكان يفتخر حينا لفروسته وفتوة أجداده وتارة كان بثفافته وبشاعريته فكان يقول:
وإني امرؤ لولا العوائق أذعنت | * * * | لسلطانه البدو المغيرة والحضر |
كما قال وهو يفخر بشعره وبأسه:
ولي من بديع الشعر ما لو تلوته | * * * | على جبل لأنهال في الدوريده |
الوصف
قدكثرشعرالبارودي في هذا الصنف، لأنه شارك في الحروب واقتحم الوغى، وخرج منه منتصرا وغالبا، فوصف المعارك وصور الحروب وفروسته وبطولةفرسانه، ثم تعرض لمشاكل الحياة المختلفة،سجن ونفي وحرم من أملاكه، فهذاكله وصف البارودي في قصائده، ولأنه كان فارسا ورجلا طموحا، لذا كل ماقرض من الشعر يشوبه شيئ من خصائصه اللازمة كالفراسة والفروسية، فحينما انهزم في المحاربة مع الإنجليز وسجن البارودي مع رفقائه وصف ما تعرض له في غياهب السجن، ثم نفي إلى سرنديب هناك ظل يردد عليه ذكريات أيامه التي قضاها في الرغد والترف وما على ظهور الجياد وعلى جناح الثورة فوصف ذلك كله،فهذا يصف الليل بسرنديب وما يجري في سمائه من كواكب ونجوم وصفا بديعا بمثل قوله:
الليل مرهوب الحمية قائم | * * * | في مسحه كالراهب المتلفع |
كما وصف عالم الطير وهو في منفاه بسرنديب:
دعاني إلى غي الصبا بعد مامضى | * * * | مكان كفردوس الجنان أنيق |
الرثاء
كان البارودي في المنفى يعيش مع أصحابه المشرد إذ حمل إليه البريد نعى بعض رفقائه مثل أحمد فارس الشدياق، وعبدالله فكري، وحسين المرصفي، فجزع جزعا شديدا، وصور هذاالجزع في مراث تمتاز بصدق الإحساس،فقال:
أخلق الشيب حدتي وكساني | * * * | خلعة منه رثة الجلباب |
لم ينتهي بكاءه على أصدقائه حتى أتا نعى زوجته،شريكة حياته،وزهرة حديقته، فأمضه الحزن فبكا وناح، وأنَّ وأعول:
لا لوعتي تدع الفواد ولا يدى | * * * * | تقوي على رد الحبيب الغادي |
أخيرا
حقا لم نحط جميع جوانب حياته، كما لم نستوعب جميع أغراض شعره، ولم نبرز ريادته الشعرية ومنزلته وشعره بين الشعراء المعاصرين وأشعارهم، وذلك لقلة المطالعة و قلة الوقت فمعذرة يا أستاذي الحنون!
منتجاته:
v ديوان :قد جمع فيه ما قرض من الشعر
v مختارات: جمع فيه بدائع شعراء الأقدمين
v قيد الأوابد:كتا ب جمع فيه بعض الرسائل والخواطر السانحة.
المراجع:
1. تطور الأدب الحديث في مصر:للدكتور أحمد هيكل
2. تطور الأدب العربي في مصر: للدكتور شوقي ضيف
3. عرالنيل حافظ إبراهيم:للدكتور عبدالحميد
4. البارودي رائد الشعر الحديث: للدكتور شوقي ضيف
No comments:
Post a Comment