تطور الشعر في العصر العباسي
العصر العباسي:
إن العصر العباسي يعتبر عصر الإسلام الذهبي، ولهذا العصر مكان رفيع في الحضارة الإسلامية العريقة، فقد وصلت الحضارة العربية الإسلامية إلى درجة من الكمال والنضج التي لا يوجد نظيرها في العالم كله، وأتى هذاالعصر بثروات حضارية وثقافية هائلة قلما شهدها العالم عبر العصور الغابرة. حقا عندما نستعرض العصر العباسي وما قدم من نشاطاته إلى تطوير العلوم والفنون نجد إنه أرض خصب، قد ولدت كثيرا من الفنون والآداب وأضاف في حقول العلوم القديمة أضعافا مضاعفة، من بينها الشعر العربي الذي لم يتخلف عن التحظي بسعادة هذا العصر وإحراز حصته من الرقى، فقد ارتفع الشعر في ذلك العصر معنا وفكرا كما تطور أسلوبا منهجا.
تقسيم العصرالعباسي
قامت الدولة العباسية عام 132 من الهجرة، بعد سقوط الدولة الأموية، وامتدت حتى عام 656 من الهجري،فوفقا لما شهد ذلك العصر من الأحداث السياسية و النفوذ الأجنبي والتي كلها لعبت دورا هاما في تطوير العلوم والفنون ونمو الآداب العربية والخارجية قد قسم المؤرخون العصر العباسي أربعة عصور وهي ما يلي:
العصر العباسي الأول: (132-232ه).يبتدأ هذاالعصربقيام الدولة وينتهي عندما يتولى المتوكل الخلافة سنة 232 من الهجرة، وهو عصر القوة والزهو، واستقلال العباسيين بالحكم، اللهم إلا بدأ بروز النفوذ الفارسي وقامت فيه ثورات شيعية، وأحداث سياسية متعددة، وحروب ضد البيزنطيين" كما كثرت فيه العادات والتقاليد،وانتشر الجواري والعبيد والغلمان وتغشت الخلاعة،والزندقة، والزهد، مع كل هذا استمر الإزدهار في النثر العربي.
العصر العباسي الثاني (232-334).بدأ العصر من تولي المتوكل عام 232 وانتهى عام433ه، غلب في هذا العصر نفوذ الأتراك الذين استقدمهم المعتصم بن الرشيد ليدفعوا لهم نفوذ الفرس، وشهدت العقلية تطورا وازدهارا، وأخذت الحركات الثقافية- التي عرفها العصر العباسي الأول- تؤتي أكلها في هذا العصر في العلوم الرياضية والكيمياوية، والفلكية, والطبيةبالإضافة إلى الأدب والفلسفة.
العصر العباسي الثالث(334- 447). يبتدأ العصر منذ سيطرة البويهين على الحكم عام 334 وانتهي عندما ابتدأ نفوذ السلاجقة عام 447. هذا العصر يتميز بتدهور سياسي واجتماعي واقتصادي وأقيمت فيه دويلات كثيرة مثل البويهية، والحمدانية، والأخشيدية، والفاطمية، إلا أن الأدب رغم هذه الأزمات السياسية لم يزل يرتقي ويعلو.
العصر العباسي الرابع( 447-656). يبتدأ هذا العصر بسيطرة السلاجقة على الحكم عام 447، وينتهي إثر سقوط حضارة البغداد في أيدي التتار سنة 656.
قد ذكرنا تقسيم عصر العباسي إلى أربعة أقسام لأن العصر العباسي كله شهد عدة أزمات سياسية ودينية ولكنها كلها لم تؤثر على تطور الأدب ونمو العلم والمعرفة، أثرا سلبيا، ولكنها لعبت دورا هاما في تطويرها، فجميع من تولوا الحكم قداختلفوا عن سابقيهم في جميع الأمور سوى العناية بالعلم والمعرفة، فكل منهم قد هدفوا وصببوا سهامهم إلى تطوير العلوم وتثيقيف الناس من حليها. وأسفر هذا الفكر عن تواصل إزدهار الأدب العربي والعلوم الأخرى طوال العصر العباسي حتى لقب بالعصر الذهبي لإسهاماته في تطوير العلوم.
الشعر في بداية العصر
في بداية العصر العباسي ظل الشعراء يقرضون في الموضوعات القديمة من المد ح والهجاء ويصوغون في الوصف والفخر والرثاء مماكان ينظم فيها الجاهليون والإسلاميون، وبذلك أبقوا للشعر العربي صفاته الموروثة.
ثم دارت الزمن واتسعت رقعة الإسلام حيث فتحت بلاد جديدة، ودخل الأعاجم في حظيرة الإسلام، وتعرف العرب على علوم أخرى كما امتزجت ثقافته بثقافات مختلفة أعلى مكانة من ثقافته في ا لعلم والمعرفة، فوجد الشعراء شيئا ألذ مما كان في أخيلتهم لصياغه في قالب الشعر. ووجدوا جواهره جديدة لينظموها في عقد أشعارهم. فبدأ الشعر يخطو إلى التطور والرقى خطوة خطوة حتى دار به الزمن وتغيرالحال كما تبدل مجرى حياة الناس، وخرجت من بداوة الأودية إلى تحضر المدن، فتطور الشعر ونما حتى ترقى إلى أعلى سمائه الذي لم يرتفع منه فيما بعد في الزمن القادمة.
أسباب التطور
حينما نبحث عن تطورالشعرفي العصر العباسي نجد أن الشعر قد حذا حذو النثر وتطور جريا على مسيره مثل تطوره، فلم يتخلف في النمو والرقي ، بل سبقه وازداد أهمية منه، فازدهرأكثر إزدهاره، لأن للشعر أثر وجذب أكثر ما يحتوي النثر في ثناياه من أثر، والعوامل التي تسببت على تطور النثر أدت دورا كبيرا في تطور الشعر العربي أيضا. ينبغي لنا أن نذكر بعض تلك العوامل لكي تتضح الصورة وتنكشف الأيدي وراء تطور الشعر فهي:
ولوع الخلفاء إليه
كان الخلفاء كلهم سوى من حكموا على البلاد وساسوا على أمورها وفق ما يرام من الخلافة الراشدة ،مولعين بالشعر ومسحورين بما يُكِنّ فيه من أثر، فلم يتغير حالهم بماكان في العصر الأموي تجاه الشعروالشعراء، بل قد كثرولوعهم إليه، وبلغ إلى أوجه، فاشتد تشجيعهم للشعراء، كما بسطوا أيديهم كل البسط وأغدقوا أموال بيت المال على الشعراء الذين يتبعونهم الغاؤون، لأنهم كانوا مولعين بالقصائد التي كانت تقرض في مدائحهم وتوصيف جودهم الذي لم يتقدم من منح العطايا الشعراء الذين كانوا يكتسبون بتحمديهم وتمجيدهم، ويسترزقون بجعلهم مظهرا من الله،ومعتصما بالله وخليفة الله. هكذا اتصل الشعربالاقتصاد، وصار وسيلة للاكتساب والاسترزاق، والحق أن كل ما يدر على المرء رزقه ويأتي إليه بقوته، يُبتغى، ويُسعى إليه، كما يُقدر ويقام له وزنا، فبذل الشعراء قصارى جهودهم لتقريض أحسن الأشعار، والإتيان فيها بأجود المعاني والأفكار حتى تسابقوا في هذه المهنة، فمنهم من تفننوا بالمعاني والأفكار ومنهم من تنوعوا في الأساليب والبحور، حتى تذرعوا لإرضاء ولاتهم بجميع الحيل والطرق, وبما أنهم كانوا يسدون مصارفهم وما يتقاضاه الحياة من الحوائج والضروريات على حساب العطايا والمنايا الموهوبة من قبل الخلفاء والوزراء، تقاعصوا عن العمل، وأجهدوا أفئدتهم واتعبوا أذهانهم في إجادة القريض معنا ونهجا، فمن أجل ذلك نبغ عدد كبير من الشعراء الذين حصلوا على سمعة طيبة كما ذاع صيتهم ونالوا قبولا فائقا لدى الأوساط العلمية والعامة من الناس.
فتوح البلدان:
الأمر الذي ذكرناه سابقا قد كثر عدد الشعراء ولكن ما أكثر المعاني والأفكارفي قريضهم هي الفتوحات الإسلامية التي كثرت في العصر العباسي، فاتسعت رقعة الحكومة الإسلامية، وامتزجت الثفافة العربية بالثقافة العجمية فكثرت العلوم والفنون،التي سببت على توسع أذهان الشعراء، فتعرفوا على معان شتى، وأساليب جمة، فلم يدخروا أي وسع في تجميل قصائدهم بتلك المعاني والقيم. كان من بين أولئك الشعراء، الشعراء العرب الذين تعلموا من الثقافة العجمية،والشعراء العجميون الذين بهرت عيونهم من الثقافة العربية، فتمتعوا بكلتا الثقافتين، وقرضوا قصائد بليغة متمتعين بمعاني وأساليب كلتا الحضارتين مثل بشاربن برد وأبي نواس.
حركة الترجمة:
لم تؤثر حركة الترجمة ودار الحكمة التي أنشأها هارون الرشيد في تطور الشعر العربي ما أثرت في تطوير النثر، وذلك لأن الترجمة هي من أصناف النثر، ما لها من الشعر مكان، إلا ما شاء الله، ولكنها لم تبخل بإضافة المعاني إلى أفكار الشعراء ومضاعفة الشعر العربي معنا وفكرا، فعندما نقلت كتب الفلسلفة والمنطق إلى العربية تعرف عليها كثير من الشعراء، ثم صاغوا تلك الأفكار في قصائدهم، وأتوابأشياء ازدهر به الشعر في العصر العباسي،مثل المتنبي وابن الرومي.
ولتطورالشعر العربي غير ما ذكرناه سابقا عوامل كثيرة لا يتسع لها المجال، مخافة أن لا يطول مقالنا اقتصرنا على ذكر بعض منها.فعفوًا على مالم نأتي بها.
التجديد في الشعر
لم يكتف شعراء العصرالعباسي على ما كان إخوانهم في العصرالجاهلي والأموي يقرضون من أشعارهم بل أضافوا فيها كثيرا من عند أنفسهم أسلوبا ومعنا مع إبقاء أصناف الشعر القديم، وتجددوا فيها من جهات شتى، فشهد الشعر العربي في العصر العباسي تجديدا كبيرا في أغراضه ومعانيه وأساليبه وأوزانه؛ إما توسعا فيها وإما ابتكارا وتفننا، وفي الذيل نذكر تلك المظاهر التجديدية جريا على سبيل الإيجاز والاختصار وهي ما يلي:
مظاهر التجديد في أغراض الشعر ومعانيه
1 التطور في فن الوصف واتساع آفاقه، فقد أبدع الشعراء العباسيون في وصف الطبيعة، وتفننوا في تصوير المشاهد وتمثيل الخواطر.
2 كثرة الحِِكم ، قد يحفل الشعر العربي العباسي بالحكم والأمثال، وذلك ببفضل الشعراء الذين كانوا متميزين برجاحة العقل وعمق التفكير، مثل المتنبي وابن الرومي.
3 التوسع في أوصاف الخمر، لقد تفنن الشعراء بتوصيف الخمر،فدعوا إلى معاقرتهاوتنوعوا في نعوتها وتشبيهاتها، وذكر سقاتها وندمائها. وبدأ الشعراء يستهلون المطالع بذكر الخمر،بعد أن كان الشعر يستهل بالوقوف على الأطلال، والدمن. وكان أبونواس أكثرالشعراء قولا في وصف الخمر.
4 التفنن في الرثاء؛ فقد برع فيه بعض الشعراء كالمعري، وابن الرومي.
5 كثرة شعر الشك في القعيدة، والزندقة، والمجون، والشعوبية.
6 المبالغة، قد كثر المبالغة في الشعر العباسي حتى كادت أن تصل إلى حد الكفر، حتى قيل إن أحسن الشعر أكذبه، عكس ماكان الشعراء الجاهلي يبالغون فيه واضعين الواقعية والصدق نصب أعينهم.
7 ظهور شعر الزهد والتوبة والندم، قد تطورت الحياة في العصر العباسي فظهرت الموبقات بانغماس طبقة من الناس في ملذات الحياة، فقرض بعض الشعراء في فضيلة الزهد والتوبة، كما خالط الشعر شيء من التصوف.
8 الغزل بالمذكر: في نهاية العصر العباسي حينما تطورت الحياة، واستورد الناس كثيرا من الغرب، بدأ المجتمع يتقدم إلى الفساد ومال الخلق إلى الإنهيار، فهذان الفساد والإنهارقد حضّا الشعراء علىالتغزل بالغلمان. ومن اشتهروا فيه هم: والبة بن الحباب، والحسين بن الضحاك، ومطيع بن إياس، كما أتي أبو نواس بأشعار غاية في المجون والأفحاش التي تعد منافيا للأداب العامة.
مظاهر التجديد في أساليب الشعر وأوزانه:
1. كانت القصيدة العربية من قبل تبدأ بذكر الأطلال والغزل والرحلة، ولكن ظهرت في العصر العباسي ثورة عنيفة ضد ذاك النظام، فاستنكرالشعراء استهلال القصائد بتلك المطالع، وكان أكثرهم نكيرا عليهاأبو نواس، كما يقول:
قل لمن يبكي على رسم درس* واقفا ما ضر لو كان جلس
2. كثر استعمال المحسنات البديعية من طباق وجناس وحسن تعليل وتوريه كما تضاعفت الاستعارات. ومن رواد استخدامها: مسلم بن الوليد، وأبي تمام، والبحتري وأبي نواس وابن الرومي.
3. هجر الشعراء الكلمات الغريبة، ظهر ميلانهم إلى وضوح الألفاظ وسلالتها والإكثار من الصور الشعرية، والتشبيهات المركبة.
4. تسرب إلى الشعر العربي كثير من الألفاظ الأعجمية، بسبب تصدى الشعراء الأعجميين للشعر.
أما بالنسبة أوزان الشعر فأكثروا في البحور القصيرة، وابتدعوا الأوزان الأخرى من المستطيل والممتد، عكس الطويل والمديد، والموشح، والزجل والدوبيت والمواليا، وكذلك في القافية كالمسمط والمزدوج.
نقد طه على الشعر العباسي:
وقد سبق الذكرأن الشعراء في العصر العباسي تمادوا في وصف الخمر والتغزل بالغلمان، والهزل والزندقة والمجون والأفحاش بسبب الفساد الاجتماعي والانحلال الخلقي والانهيار الفكري ولِما تفشى الخلعاء في ذلك العصر. ومن ثَمّ انكر الدكتور الأديب طه حسين على الإنجازات الشعرية في العصر العباسي وأطلق عليه"عصر الزندقه والمجون".
جواب نقده
قد تعجل طه في الحكم على الشعر العباسي، لأنه درس شعر إثنين من الشعراء العصر العباسي الذين بلغ عددهم أكثر من خمسين شاعرا. فقد حلل فقط بشار بن الأسد وأبا نواس، الذين يعتبران من أفحش الشعراء قولا وأرزلهم خلقا؛ ولكن الشعر في العصر العباسي لا ينحصر في هذين الشاعرين، بل هناك عدد كبير من الشعراء الصالحين الذين قرضوا الشعر فأجادوافيه من ناحية الدين والخلق، ويطلق على شعرهم شعر الدعوة الإسلامية، فمن أبرزسمات شعراء الدعوة الإسلامية، ما يلى:
1 نجد فيها دعوة إلى التمسك بالأخلاق الإسلامية الفاضلة.
2 كما عالج شعراء الدعوة المحن التي مرت بالمسلمين في داخل أوطانهم من صراعات دامية، خاصة من فتن العقيدة، في مسئلة خلق القرآن، فقرض الشاعر على بن الجهم قصائد كثيرة دفاعا عن أهل السنة وتائيدالموقف الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.
3 يحتوي هذاالشعر على قدر كبير من شعر التوبة، والندم والاستغفار،وابوالعتاهية من أشهر الشعراء فيه.
فبالجملة إلى جانب الشعر الماجن المستهتر الذي كان منتشرا في العصر العباسي كان هناك شعر جاد، رصين ، ينبض بالروح الإسلامية، وتشع منه أنوار اليقين ويفوح منه عبيق الإيمان.
أخيرا
نقول حقا إن الشعر تطور في العصر العباسي تطورا خلف أثره فيما بعد، ولم يدخر شعراء العصر العباسي أي وسع لتحلية الشعر بأجود المعاني وأحسن الأفكار كما لم يألوا أي جهد لإيجاد الأساليب الحسنة الجذابة أكثرأثرا من الأساليب القديمة، فصاغوا فيها أفكارهم التي وجدوا إرثا من آبائهم والتي تولدت من اتصالهم بثقافات أخرى وتعرفهم على العلوم والفنون التي لم يكن يعرفها أسلافهم، كما لم ينبذوا أصناف الشعر الجاهلي وراء ظهورهم بل أبقوها كما كانت مكانةً في الشعر، ووسعوها حسنا وأثرا، فاكتسب الشعر العربي في العصر العباسي مرابح شتى مع ربحه القديم المستقل.
المراجع:1 تاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف. 2: تاريخ الأدب العربي لحسن الزيات.:3 حركة الترجمة في العصر العباسي لأورنك زيب عالمكير.
No comments:
Post a Comment